توطئة: جنون المطر هي تلك الأصوات التي تهمس في أذنيك حينما تسرح عيناك في حركات أغصان الأشجار ببدايات تشرين حينما تستطيع فعلا أن تشم رائحة المطر في تراب الأرض.. وهذه همسات امرأة ما في تشرين ما... ...... جاء المطر، هذي علامات المطر، هذي علاماته يا صاحبتي (أن تحلق عصافير النفس قريبا من التراب بحيث تطأها الرجل ظانة أنها تمشي فوق سحاب ليس سوى عرق الإنسان أو بخار التراب) فما بال دمشق لا تزال تحلم بالنعيمي وما بال النعيمي لا يزال ممسكا بأطراف جزر الخيال وكأن لا جزيرة هنا ولا ماء!؟ (أنتِ عندما قر عزمك، في نهاية الأمر، على المجيء إلى الشام لم تكوني قد قررت بعد الهروب من عاصفة مضاعفات تلك الأحداث الرهيبة التي أدت بك إلى ما يشبه الانهيار التام...). انظري إلى الكلاب كيف انتعشت، والسهول كيف انفتحت، والجبال كيف انبسطت، والجباه كيف انقبضت، والقطط كيف تهيبت، والعيون كيف تمططت، والأنوف كيف انبجست وتساقطت... (لم تكوني، والحالة هذه، تملكين القدرة على تقرير الهروب هكذا من تلقاء نفسك، فلقد فقدت هذه القدرة ذاتها، فقدت كل قدرة من هذا النوع، فلا داعي للادعاء الآن...). انظري إلى الكؤوس كيف استنفرت، انظري إلى الخمرة كيف سكبت في حمرية وترقرقت، إلى الأبواب كيف أغلقت، إلى أقفالها كيف أحكمت... (كانت ثلاثة أحداث رهيبة قد تزامنت في تلك المرحلة من حياتك بما يشبه الصدفة المتواطئة أو الضرورة الخبيثة...). انظري إلى النفوس كيف كممت، إلى القلوب كيف أغلقت، إلى الأفواه كيف فغرت، وانظري إلى الحافلات كيف صممت، إلى الأجسام كيف كورت... (موت والدك الذي أحرق نفسه ببنزين سيارة الأجرة التي كان يكسب بواسطتها قوت العائلة وما ترتب عن هذا الموت من فساد وانحلال في العلاقات بين أفراد العائلة خاصة بينك وبين البنات وبينك وبين زوجك الذي تأثر بهن على إثر واقعة الضيوف الأشقاء الذين « تزوجوا » بالبنات...). انظري إلى الجهات الأربع في دمشق كيف انبطحت، ولا تنظري إلى كأسي التي انتشلت من حلقي، ثم كسرت، وهي لا تزال ملأى منذ أفرغت، انظري واتركي النميمة التي شتت، في الهواء، كما القصيدة بعثرت... (ولا شك أن الحدث الثاني كان أفظع، أعني إفلاس الشركة التي كنتٍ تديرين قسم حساباتها وخروجك للانضمام إلى أفواج العاطلين، فالإنسان يظل صلبا ما دام يعمل...). انظري ها قد جاء المطر وقولي لي، يا ابنة العافية، أنت التي مارست التجوال، بين أماكن الزمان، من أوقف النسمة بين الحاجب وعيني، من علق الخضرة بين دمشق والسماء، من أوحى لحلب أن تعاف ريق النساء، لحمص أن تيأس من اشتهاء الماء، للزيتون أن يعزل بني محمد عن البرج وبغداد، بعشرات الكيلومترات من الأسوار!؟ (ثم جاء فشلك في التجربة الرومانسية التي دخلتيها بلا وعي سياسي ولا وعي انتهازي والتي لم تكن نهايتها بالقساوة التي تتصورين إذا ما قارنتيها بتجارب أخرى...). قولي لي يا ابنة العافية، يا صاحبتي، من أوحى لي بأن دمشق متاهة من الأسوار، بأني تارك في قارة ما لم أتركه في عمّان أو بغداد!؟ قولي لي يا من تلفعت بالزيتون: كيف الخلاص من أسر الزيتون وما ثمن الرحلة من حلب موطني إلى دار سيدي رحمون، قولي لي ولا تعاتبيني على الإصرار، كيف أنتشل بقايا كأسي من هذه الأسوار؟ (أنا أظن أن سبب مأساتها الانتظار، لقد انتظرت طويلا بدل أن تقدم، لست مؤمنا مثلك ولكني أومن بفكرة العبد الملحاح إذا كان العبد مقداما، والإقدام هو الحد الوحيد الذي يجمع بين حسنات المبالغتين: الانتظار والتهور. لذلك لا أستطيع أن أوافق على مبدأي الانتحار والقتل. كل عيب صاحبتك أنها انتظرت بدل أن تقدم، انتظرت أشياء كثيرة بدل أن تذهب إلى الأشياء. وها هي تنتظر الآن شيئا واحدا..... تلك عاقبة الانتظار الحتمية: أن تنتظر شيئا واحدا يتحول بالتدريج إلى لا شيء!). صباح مساء أنظر إلى هذه الأسوار، صباح مساء... كلما نظرت إلى الأسوار، بدل الفخر يملأني الإحباط... أربعون كيلومترا من الأسوار فوق الأرض، ترى كم طول ما في الأرحام؟ (لقد كنت أتحدث عن الأسباب الخارجية، أما بخصوص الأسباب الداخلية فإني قد أذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه، إلا أني أفضل أن أقول ذلك في كلمة واحدة: غياب العقل. هذه نتيجة من لا يغلب العقل. والعقلانية هي السلاح الأفضل في مواجهة ظلمات القهر!). لحبس قارة أكثر من لسان... ولهذه الأسوار أكثر من خطيئة لن يغسلها لا صابون نابلس ولا شعر الحطيئة، مطرا... مطرا... مطرا... يا سماء! (صحيح، إلا أنك تتحدثين عن العقل كما لو كان يأتي من العدم، إن ما نسميه العقل ليس سوى خلاصة التجربة الفردية والبشرية، ورغم أهمية هذه فإنها لا معنى لها بدون تلك، أما صاحبتنا فمن أين تريد أن يأتيها العقل؟ خذ مثلا تجربتها مع الرجال، إنها لم تعرف غير هذا الــ...، أعني: لم تحب. وهل تعرف لماذا أحبته كل هذا الحب؟ لأنها امرأة عالمة بفنون المضاجعة. أول امرأة تعرف من أين تؤكل كتف الرجل. لكن، من سوء حظها أنه بغي!). ما حمل أبي خطيئة جدي، حملت خطيئة أبي وجدي وسيحمل أبنائي هذي الخطايا بعدي، ليتني أحمل كل الخطايا بعدي، ليتني أحمل كل الخطايا وحدي،... لأعفي كل الأجيال التي تأتي من ذنوب جيل كثرت خطاياه... مطرا.. مطرا يا سماء! (إن المرأة لم تجد ما يكفي من الأصدقاء، وكيف يمكن لأمثالها أن تحافظا على الأصدقاء!؟ إني أتصور أن هؤلاء الأصدقاء قد حاولوا أن يفسروا لها أن حالتها ناتجة عن تفاقم الأزمة التي عمت المجتمع، وربما العالم، والتي كانت تعصف بحياة أولئك الذين لم يكونوا يتوقعونها أو لم يتهيأوا لها بما يكفي، ولا شك أنهم نصحوها بالصبر والتبصر على أساس أن ما كان يحدث لها هو نفسه الذي كان يحدث لآلاف الأفراد والعائلات من أولئك الذين لم يعد الواحد منهم يعرف يديه من رجليه...). ليكن ما سيكون رثاء، إني سأعدد خطايا الآباء، هل أعدد خطاياكم أيها الآباء؟ ليكن ما سيكون استفتاء، ولتجمع الكأس شظاياها خوفا أو حياء...لتكن بيني وبينكم السور بدل الأسوار: باسم الله الرحمن الرحيم، تبدو زرقاء اليمامة في الزيتون، ودمشق في بغداد... باسمك يا رب العالمين، سارت الأسوار أمامنا، صارت الأسوار في الفراش، في الأكل واللباس... وباسمك يا عظيم يا معين، صارت للأسوار أيدي وعيون! (أكثر من ذلك: تصور الأصدقاء أن انهيار المرأة لا يشكل خطورة عليها وحدها وإنما هو أشد خطورة عليهم، لأن الانهيار معد كأي وباء، ولا بد للمرء السليم من محيط سليم، أما إذا أصيب واحد من المحيط بهذا الداء فإنه يهدد أهله وأصدقاءه كما يهدد المجتمع بأكمله. لذلك سعوا جميعا إلى تقوية إرادتها، ثم إن مقاومة صديق ضد داء كهذا يعتبر رمزا لمقاومة كل المحيط. كأنهم اذن يذكون فيها روح مقاومة جماعية...). غفرانك يا ربي، من أوحي لهذا المتشرد المسكين بأن دمشق بركة من زيت الزيتون؟ (أستطيع كذلك أن أتخيل أن أصدقاءكم قد يئسوا من أمرها وتفرقوا، في نهاية المطاف، من حولها، أليس كذلك؟). سيخرس هذا الحلق شرقا بالماء وتعود غيمته إلى الضياء فتركبني فرس الحقد بعد فرس الرثاء أخت فرس البكاء... مطرا... مطرا... يا سماء! فإن الأسوار تزداد أسا، تزداد عرضا وارتفاعا، ولم أعد أتبين لدمشق علوا أو قاعا... إني أنظر إلى الأسوار مرتاعا! (أنا كنت واحدا منهم، وماذا كنا نستطيع فعله لصالح امرأة تخلت عن الرغبة في الحياة؟ إن مصائرنا تأتي من داخلنا، كل فرد يحمل مصيره بداخله ويغذيه سلبا وإيجابا – في اتجاه الموت أو في اتجاه الحياة فليس لمصيرنا سوى أحد اتجاهين – ونحن نستطيع، بناء على ذلك، أن نصنع الذي نريد كيفما كانت الظروف المحيطة بنا. لهذا لا يجب أن نندهش إذا حل بنا ما ندعي أننا لم نرده ولا يجب أن نعجب إذا حل بنا دائما ما نريد وليس غير ما نريد!). ضرب البرق...ثم تصاعد المطر...!
loula485 عضو فضي
الدولة : عدد المساهمات : 719نقاط : 1058تاريخ التسجيل : 22/08/2014 المزاج : jayid
موضوع: رد: جنون المطر الخميس سبتمبر 18, 2014 7:29 pm
إن مصائرنا تأتي من داخلنا، كل فرد يحمل مصيره بداخله ويغذيه سلبا وإيجابا – في اتجاه الموت أو في اتجاه الحياة فليس لمصيرنا سوى أحد اتجاهين لكن القدر قد يغير المصير وفق ارادة الله وليس وفق ما نريد وما غديناه بدواخلنا أيمون
لحن عضو فضي
الدولة : عدد المساهمات : 471نقاط : 677تاريخ التسجيل : 10/11/2014 المزاج : متقلب
موضوع: رد: جنون المطر الأربعاء أغسطس 05, 2015 1:51 am
C'est trop triste et trop beau en même temps Tu m'encourage à lire la littérature arabe Merci